يخطئ الإنسان إذا ما اكتفى بفُتات هذا العالم، فيما هو مدعوٌّ إلى التألّه (حبّةُ حنطة مدعوّةٌ إلى أن تصير سنبلة وحصادًا، وهي لا تنظر إلى أبعد من أن تكون نبتة خضراء!) فكيف النهوض به، وهو أعجز من أن يتحرّر من عقم "حبّة" الاكتفاء الهزيل، وأعجز من أن يكسر طوق حدوده؟ الله وحده قادر أن ينهض به فينتشله من "موت" حدوده إلى لامحدوديّة "الحياة" الحقيقيّة ("بدوني لا تستطيعون شيئًا"- يو 15 /5). هذا ما يفعله الله من خلال آلام المسيح وموته وحياته الجديدة.
كان الإنسان الخاطئ يتوهّم أنّه إذا احتفظ بما له وجَدَه ، وإذا بصليب المسيح يعلّمه أنّ "من حفظ حياته أضاعها، ومن أضاع حياته (في سبيل النموّ بالمسيح) حفظها" (متى 10/ 39). لا بدّ له، إذًا من أن يثق بالله، مانح الحياة الحقيقيّة، فيحظى، إن هو نظر إلى المصلوب، بما قد حصل في آلام المسيح وموته وقيامته وحياته الجديدة.
وعليه فإنّ الألم ليس عقابًا ولا اقتصاصًا. الألم تحوّلٌ جذريّ، وتفجّر ينتهي بنا إلى الحياة الحقيقيّة. إنّه تحطّم وتمزّق وتهشيم وموت. لكنّ ذلك ليس بالأمر الغريب. إنّه النظام الكونيّ موت الدودة لتصبح فراشة، تحطّم قشرة البيضة لينطلق فرخ الدجاج، اهتراء حبّة الحنطة لتصبح سنبلة وحصادًا، انقلاع الجنين من الرّحم ليطلّ على عالم جديد، الموت ترك لحياةٍ معيّنة من أجل الولادة لحياة أخرى... تركُ العادات السيئة لاعتناق عادات أفضل... ترك المستوى الدنيويّ للارتقاء إلى المستوى الإلهيّ... ترك الحياة للذات من أجل الحياة للآخرين... هذا ما كان من أمر المسيح الذي لم يصعد إلى السّماء إلّا بعد أن ارتفع على الصّليب. هذا هو "عبوره" بالألم إلى المجد. لقد عبر قدّامنا ومن أجلنا، فهو "يجتذبنا" أجمعين من خلال النفق الذي مرّ به قبلنا.
"نحمل في الجسد، كلّ حين، موت يسوع، لتظهر حياة يسوع أيضًا في جسدنا. لأنّنا، نحن الأحياء، نسلم دائمًا إلى الموت من أجل يسوع، لتظهر حياة يسوع أيضًا في جسدنا المائت" (2كو 4/ 10-11). معنى ذلك أنّه إذا ارتضينا دعوتنا الإلهيّة إلى الحياة في الله، ارتضينا أيضًا الألم في أثر يسوع المسيح.
قدرة يسوع هذه قدرة حبّة الحنطة التي تقوم لحصاد عظيم. فلأنّ يسوع رضيَ بأن يموت، متقبّلًا المحدوديّة البشرّية إلى أقصى حدّ، حدّ الموت ظلمًا، لم "يبقَ وحده" ابنًا لله، بل قام جماعةً يستولي عليها بـ"قدرة ابن الله" ويحوّلها إلى "مشابهيين لصورته، فيكون هكذا بكرًا لإخوة كثيرين" (روم 8/ 29).
فإن نحن اقتدينا بالمسيح المتألّم، كنّا شبيهين له، إلى الأبد، في حياته ومجده. على كلّ منّا، إذًا، أن "يكفر بنفسه ويحمل صليبه كلّ يوم" (لو 9/ 23) "فإنّ من أراد أن يخلّص نفسه يهلكها. أمّا من يُهلك نفسه من أجل الإنجيل فإنّه يخلّصها" (مر 8/ 35).
علّمنا الله أنّ الحياة هي الحبّ. لكنّ الحبّ يقتضي الخروج من الذات، نسيان الذات، والتضحية بالذات واحتجابها والكفر بها من أجل الآخر.
فالموت إذًا هو ذلك الاحتجاب الكلّي للذات هو، إن تقبّلناه، ذروة الحبّ. فمن يموت من أجل الغير يؤدّي شهادة لا اعتراض عليها لحبّ خالٍ تمامًا من الأنانيّة. لا، ليس "حبٌّ أعظم من حبّ من يبذل نفسه في سبيل أحبّائه" كما فعل المسيح (يو 15/ 13). فكان ذلك منه دعوة إلينا لكي نموت حبًّا بالله وبإخوتنا البشر.
الحبّ يكون لامتناهيًا أو لا يكون حقًّا. حبّنا نحن بعيد جدًّا عن اللّانهاية. لا بل هو بعيد عن الصفاء. ما من أحدٍ يستطيع أن يحبّ دون أن يحبّ نفسه في الوقت نفسه. ولذا فإنّ الألم والصّليب والعذاب هي بمثابة نار تمتحن وتطهّر.
قال أحدهم: "إنّ الوسيلة الوحيدة للتنقية والتطهير هي الألم الذي لا بدّ منه للقضاء على الأنانيّة ولتفعيل الحبّ. فالحبّ لا يُكتسب إلّا بالصليب... إن لم يتلاشَ فينا ما ينبغي أن يتلاشى، فإنّ الله لن يملك علينا... ليس الألم سوءًا لا بدّ منه أو رضوخًا سلبيًّا للأمر الواقع أو عارضًا مؤسفًا يُزاد إلى الحمل الثقيل. الألم هو الطريق" (إيف دي مونشوي).
وعليه فإنّ الألم في نظر المؤمن، هو حضورٌ لإله المحبّة به يملأ ما فينا من آلام. حضورٌ، لا غياب... المسيح، بعد أن صرخ متالّمًا: "إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟"، كما لو أنّ الله كان غائبًا عن صليبه، عاد فقال: "أبتاه، بين يديك أستودع روحي"، كما لو أنّ الآب كان حاضرًا في صليبه (متى17/ 46)، (لو 23/ 46).
يسوع ابن الإنسان يشعر بغياب الله، فيقول: "إلهي، لماذا؟" يسوع ابن الله يشعر بحضور الآب، فيقول: "أبتاه، بين يديك..." وكان قد قال سابقـًا: "أنا الكرمة الحقّة وأبي هو الكرّام وأنتم الأغصان. كلّ غصن فيّ يثمر، يقضّبه أبي وينقـِّـيه لكي يأتي بثمر كثير" (يو 15/ 5-10). فإنّ قضّبنا الله ونقـّانا، أين العثار؟ ... إن كان الألم سرًّا، فالحبّ سرٌّ أكبر... ومن يعترض على الحبّ؟
إنّ موقف المسيحيّ من الألم ليس، والحال هذه، موقف البائس الذي لا رجاء له، أو من فُقِئَت عيناه، كما يدّعي ألبير كامو في "الطاعون"، بل هو موقف من يحدّق إلى صليب المسيح فيدهش كيف أنّ الله تحمّل أبشع ما في العالم - تعذيب البريء وقتله - لكي يكشف لنا عن سرّ كيانه الأكثر عمقـًا ومدعاة للإثارة: جنون حبّه.
قال أحدهم: "لمّا أحّبنا الله هذا الحبّ الذي "لا يُصدّق"، تعرّض لأن لا يصّدق. لكنّه في الوقت نفسه، أتاح لمن يتبلّغون رسالة الصّليب ألّا يتعثّروا بآلامهم مستنكرين. فمن يدرك أنّه محبوب إلى هذا الحدّ، لم يعد في وسعه أن يشكّ في محبّة إلهه" (بيار ديكوفمون).
الأب جميل نعمة الله السقلاوي اللعازري